مكانة السنة النبوية من التشريع وأدلة حجيتها
إن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي . وهذه حقيقة لا يعارضها أو يشغب عليها إلا شقي معاد لله ولرسوله وللمؤمنين ، مخالف لما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا وحتى قيام الساعة - بحول الله تعالى .
ذلكم أن المقرر لدى الأمة المسلمة أن الوحي المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الله - سبحانه - نوعان : الأول : هو القرآن العظيم ، كلام الله سبحانه - المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه ، غير مخلوق ، المتعبد بتلاوته ، المعجز للخلق ، المتحدي بأقصر سورة منه ، المحفوظ من الله - تعالى - أن يناله التحريف ، المجموع بين دفتي المصحف الشريف . . أما النوع الثاني من الوحي : فهو السنة النبوية المطهرة بأقسامها القولية والفعلية والتقريرية ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - هي من وحي الله - عز وجل - إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم - باتفاق الأمة المسلمة ، وذلك لما قام الدليل من كتاب الله - تعالى - على ذلك في آيات كثيرة ، ثم لما صرحت به السنة النبوية ، ثم لما أجمع عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم إلى يوم الدين - بحول الله تعالى .
وإذا كان الشاغبون على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزعمون أنهم يستمسكون بالقرآن المجيد مكتفين به عن السنة ؛ فلنذكر بعض ما جاء به القرآن الكريم من الآيات البينات التي تشهد وتصرح بأن السنة وحي من عند الله - سبحانه- إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم الآيات التي تصرح بوجوب طاعته- صلى الله عليه وسلم - ووجوب حبه ، ووجوب اتباعه ، ووجوب الاحتكام إليه والتسليم له في كل ما يحكم به ، لنا كان الحكم أو علينا ، إلى غير ذلك .
فمن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي قول الله - عز وجل - : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (النجم : 3 - 4) وهذه الآية نص قاطع في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي بشيء من عنده ، وأن كل ما ينطق به في مجال التشريع إنما هو وحيٌ من عند الله - تعالى - ، سواء كان وحيًا من النوع الأول وهو القرآن ، أو من النوع الثاني وهو السنة النبوية .
ومن ذلك - أيضًا - قوله - تبارك وتعالى - لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (آل عمران : 164) . وهذه الآية الكريمة لعلها استجابة من الله- تعالى - للدعاء الذي توجه به إبراهيم وإسماعيل - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - إليه - تعالى - حين كانا يرفعان القواعد من البيت .
وهذا الدعاء ذكره الله في القرآن الكريم في قوله - سبحانه وتعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( البقرة : 127 - 129) . فهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - لقي القبول عند الله - سبحانه - فكان من قدره - عز وجل - أن جعل من ذريتهما تلك الأمة المسلمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ، ثم بعث فيها رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .
وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة إنما هو : السنّة النبوية ، فإن الله - تعالى - قد مَنَّ على المؤمنين بإرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي جعل رأس رسالته أن يعلم أمته المؤمنة شيئين : الكتاب والحكمة . ولا يجوز أن تكون الحكمة هي الكتاب ، فإنها معطوفة عليه ، والعطف يقتضي المغايرة ، ولا يجوز أن تكون شيئًا آخر غير السنة ، فإنها عطفت على الكتاب ، فهي من جنسه في المصدر والغاية . وقد منَّ الله - تعالى - بهما على المؤمنين ، ولا يمنّ الله - تعالى - إلا بما هو حق وصدق ، فالحكمة حق كما أن القرآن حق . وهذه الآية واضحة الدلالة على أن السنة من وحي الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
يقول الشافعي - رحمه الله تعالى : " فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يشبه ما قال - والله أعلم - لأن القرآن ذُكر ، وأُتْبِعَتْه الحكمة ، وذكر الله منَّه على الخلق بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هنا إلا سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنها مقرونة بالكتاب ، وأن الله افترض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم . . . . " .
ومن الآيات التي تقطع بأن السنة وحي من عند الله - تعالى - وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق فيما يتصل بالتشريع إلا بما يوحي الله - تعالى - إليه ، قوله - سبحانه - في شأن رسوله - صلى الله عليه وسلم : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة : 44-47 ) .
فهذه الآيات تدل بوضوح شديد على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول شيئًا - فيما يتصل بالدين - إلا بما يوحي إليه الله به - وكذلك لا يفعل ، فإن القول أعم من الفعل ودليله - ولو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال شيئًا في الدين لم يوح الله - تعالى - به إليه ، لأهلكه الله - تعالى - وما من أحد بقادر على أن يمنع الله - سبحانه - من إهلاكه آنئذ ، وهذا وعيد من الله - تعالى - ووعد ، وعيد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتقول عليه ما لم يوح به إليه - وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك - ووعد للمؤمنين بأنه - تعالى - حافظٌ دينَه من أن يدخل إليه أو يختلط به ما ليس منه على لسان نبيه ، وهذه الآيات تعد - في الوقت ذاته - أمرًا من الله - تعالى - جازمًا لأمته أن يؤمنوا ويوقنوا ويسلموا لكل ما يأتيهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إن الله - عز وجل- ضمن لهم أن نبيه لن يتقول عليهم ، وأن كل ما ينطق به النبي قولًا ، أو يأتيه فعلًا . إنما هو من وحي الله - تعالى - إليه . . يقول العلماء : لقد أخبر الله - عز وجل - بأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لو تقول في الدين قولًا لم يوح - الله تعالى - به إليه لأهلكه الله - سبحانه - وحيث إن الله - تعالى - لم يهلك نبيه ، فلم يأخذ منه باليمين ، ولم يقطع منه الوتين - نياط القلب - بل سانده وأعانه ، وأيده ونصره ، وأظهره على أعدائه هو وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه ، فإن ذلك دليل قاطع على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل أو يفعل أو يقر شيئًا إلا بوحي من الله - سبحانه وتعالى- .
ومن الآيات التي تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول أو يفعل شيئًا في الدين إلا بوحي من عند الله - عز وجل - قول الله - سبحانه - مخبرًا عن رسوله- صلى الله عليه وسلم- : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف : 157 ) .
فالآية أسندت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإحلال الحلال ، وتحريم الحرام إليه- صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون أن تقيد ذلك بكونه قرآنًا أو سنة ، والإطلاق العام هنا يشمل جميع ما يحله ويحرمه - صلى الله عليه وسلم - أعم من أن يكون ذلك بالقرآن أو بالسنة ، فبان من ذلك أن ما يحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وما يحرم بسنته هو مثل ما يحرم بقرآن الله - تعالى - كلاهما وحي من عند الله - سبحانه - .
ومن الآيات التي تدل على أن السنة وحي من عند الله - سبحانه - وتنص على أن ما يحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنته مثل ما يحرم بالكتاب المجيد ، كلاهما من عند الله - تعالى - قول الله - عز وجل - : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة : 29 ) . فهذه الآية الكريمة ذكرت نوعين من المحرمات ، ما حرم الله - تعالى- وما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمعت بين الأمرين في جملة واحدة عاطفة ما حرم رسول الله على ما حرم الله ، وذلك يدل بوضوح على أمرين ، الأول : أن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو مثل ما حرم الله ، وأن الأمرين على منزلة واحدة من حجية التشريع وحكمه ، وأن ما شرع الله - تعالى - في كتابه هو مثل ما شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في سنته . . الثاني : أن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته هو وحي من عند الله - تعالى - كمثل ما حرم الله - تعالى - في كتابه ، فكلا التشريعين وحي من عند الله - سبحانه - .