ملة إبراهيم لماذا تخيفهم !؟
الحمد لله معز المتقين، ومذل أعداء الدين ..
وأطيب الصلاة وأتم التسليم على قدوتنا وأسوتنا القائل: (.. إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم)[1].
وبعد ..
لم يتيسر لي متابعة البرنامج الذي بثته قناة الإخبارية البارحة ليس لأني فقط - كما يقال - من المتشددين الذين ليس في بيوتهم تلفاز!! بل ولأني علمت أن البرنامج فاقد للموضوعية والصدق والإنصاف ومن ثم فهو ساقط قبل أن يبث؛ فلا داعي لتجشم البحث عن تلفاز لأحضره .. وذلك لأنّ من يرضى لنفسه أن يناقش أو يبارز غائبا أو مغيبا؛ فهو ليس بشيخ ولا دكتور ولاعالم؛ بل هو في الحقيقة عبارة عن أبله يُعرف ويسمى في الأدبيات الإسبانية بـ (دونكي شوت ) وهو شخص فاشل فشل في مغامراته الأولى في مواجهة البشر ومبارزتهم وجها لوجه فضرب وأهين من مجموعة من التجار!! حتى أغمي عليه ..وبعد أن استفاق من تجربته الأولى؛ واستصعب طريق مواجهة التجار! واستوعره؛ حاد إلى تجربة جنونية انطلق خلالها في أحلام يقظته ليبارز طواحين الهواء متخيلا أنه يبارز الفرسان والأبطال ..
والأبله يبقى أبلها، والصغير يبقى صغيراً مهما ضخمه وكبّره أولياؤه، ولا تنفع المرء ألقاب الدكترة والتصدير في المنابر وخلف الميكروفونات وارتداء البشوت؛ إذا عرف الناس أنه يسير وفق خطة ولي نعمته وينقاد لأسياد ولي نعمته في حربهم العالمية على الإسلام التي يسمونها بالحرب على الإرهاب ..
الطريف في الحالة الدونكيشوتية؛ أن نتيجة أول المعارك التي سعى هذا الفارس الوهمي إلى خوضها ضد طواحين الهواء حين توهم أنها شياطين ذات اذرع هائلة؛ واعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا!! تماما كما اعتقد - صاحبنا أن كتابي مصدر الشر كله في بلده، وخلفه لا يقف شخص بل تيار!! وكما يعتقد أولياؤه وأسيادهم أن المجاهدين هم مصدر الشر والإرهاب في هذا العالم - فامتطى ذلك المعتوه حصانه الأعجف وهاجم الطواحين غير مصغ إلى صراخ مرافقه وتحذيره؛ وركز رمحه في أحد أذرعها! فرفعه ذراعها في الفضاء ودار به ثم رماه أرضا فرض عظامه وكشف سوأته ..
هذه الحالة الدونكيشوتية نراها اليوم تتكرر كثيراً مع مشايخ ودكاترة وكتاب أبوا إلا أن يصطفوا في عدوة أعداء الشريعة ويظاهرونهم على تشويه الحق ومبارزة هذا التيار وأذرعه الضاربة في كل مكان؛ والسعي في تقبيحه والطعن فيه برماح كذبهم وافتراءاتهم وتزويرهم وزخرفهم؛ خدمة لولاة أمورهم وأسيادهم .. والنتيجة التي عايناها مراراً وتكراراً مع هؤلاء الفرسان المتوهِّمين!! أنه وإن حاول إعلامهم وطواغيته رفعهم وإبرازهم وتقديمهم للأمة إلا أنهم في كل مرة يسقطون وتزل حمرهم في الطين وتتكسّر هالاتهم ويتعرون ..لأنهم كما قال الشاعر ..
كناطح صخرة يوما ليوهنها فما ضرها وأوهى قرنه الوعل
وأحسن من ذلك قوله تعالى: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) فما من شانئ لدعوة التوحيد والجهاد إلا وله هو وكتاباته وسعيه ومكره نصيب من هذه الآية ..
ومن شك فليتأمل في أحوال خصوم الرسل وأعداء أتباعهم ..
أعلم وأثق بأن هذا البرنامج السخيف لن يقدم لكتابي هذا ولهذه الدعوة الغالية إلا مزيدا من الدعاية والرفع والنشر والتعريف بين الشباب وعموم الناس ..
خصوصا وهم يضخمونه كل هذا التضخيم!! حيث يقول الحميدي بحسب ما نشر على لسانه من البرنامج على المواقع السعودية: ( إن كتاب "ملة إبراهيم" للمدعو أبو محمد المقدسي .... لا يقف خلفه شخص، بل يقف وراءه تيار معين، بل أشد من ذلك )
فلا أشك أن أي متحمس محب للقراءة حين يرى مثل هذه العبارة سيبادر للبحث عن الكتاب، وسيصل إليه خلال أقل من دقيقة؛ فنحن اليوم كما يقولون أمسينا في قرية صغيرة لا ينفع فيها حجب مواقع ولا غلق حدود، ولن يتكلّف المرء للوصول إلى الكتاب حتى مجرد القيام عن كرسيه أو مكتبه، فما هو إلا أن ينقر على لوحة المفاتيح في محرك البحث اسم كتابي هذا الذي لا تتجاوز حروفه عدد أصابع اليدين لتظهر أمامه عشرات الروابط التي سيدله بعضها عليه وتوصله إليه مترجما بأكثر من لغة ..
فمحاولة تشويه الكتاب أو تقبيحه من خلال علماء السلاطين وأبواقهم وفضائياتهم وكتّابهم محاولة يائسة بائسة؛ وهي في النهاية ليست إلا كما قال الشاعر ..
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ فَالقَومُ أَعداءٌ لَه وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
أو كما قال الآخر :
وإذا أرادَ اللهُ نشْرَ فضيلةٍ طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ
هذا الكتاب الذي يدعي الحميدي أنه ( لا يقف خلفه شخص، بل يقف وراءه تيار معين، بل أشد من ذلك ) !!
جمعت مادته قبل سنة 1405هـ وكنت في بداية العشرينات من عمري وكنت يومها مقيماً في المدينة المنورة إقامة مؤقتة، وفي مكتبة الحرم النبوي التي كنت أحب المطالعة فيها؛ وقعت عيني لأول مرة على كتاب ( الدرر السنية في الأجوبة النجدية ) فجذبتني فيه الكثير من رسائل علماء نجد فأخذت في تلخيص وتدوين كل ما تراه اليوم مشحونا في كتاب ملة إبراهيم من نقولات عن أئمة الدعوة ..
فردُّ الحميدي أو غيره على الكتاب؛ هو في حقيقته انقلاب على إرث أئمة الدعوة ورد على هؤلاء الأئمة ؛الذين ورد في بعض كتاباتهم كسبيل النجاة والفكاك للشيخ حمد بن عتيق وكتاب الدلائل للشيخ سليمان؛ ونحوهما من الإطلاقات ما احتجت معه للتعليق عليها في بعض مواضع كتابي هذا لأجعلها مانعة من سوء الفهم واستغلال الغلاة؛ ولكن القوم أجبن من أن يردوا على الأئمة؛ لأنهم في بلادهم نجوم؛ ويخشون من الإحتراق والسقوط إن هم اقتربوا من النجوم؛ مع أن الحقيقة التي يعرفها كل من يعرف كتابي؛ أن الرد على كتاب الملة المشحون بأقاويل هؤلاء الأئمة؛ هو في حقيقته رد مبطن عليهم؛ وليس أدل على ذلك من فعل مقدم البرنامج حين كان يقرأ مقتطفات من أقاويل الأئمة ذاهلاً أو عامداً؛ مطالباً الحميدي بالرد عليّ بها وكأنها كلامي ..
وأنا أعرف جيداً ما الذي يغيظ القوم في هذا الكتاب، ويؤلمهم أشد الألم حتى ظهر ذلك في نباح فضائياتهم وصحافتهم وإعلامهم حول الكتاب؛ فشهروه بصراخهم وقد قيل (الصراخ على قدر الألم) وسبب تألمهم واغتياظهم من الكتاب شيئان؛ ذكري لدولتهم باسمها في مواضع من الكتاب .. وقبل ذلك أني شحنت الكتاب وطفّحته بالنقل عن مرجعيات السلفية في بلادهم وهم أئمة الدعوة النجدية ..
يقول أحد صحفييهم حين سأله نصراني يقوم بعمل دراسة حولي وحول أثري في الجزيرة ..
( إن كتب سيد الفكرية وأمثالها لا تروق للشباب السلفي في بلادنا؛ فجاء المقدسي وأخذ ما يدعو إليه سيد قطب وغيره في كتبهم الفكرية من مسائل الحاكمية والولاء والبراء ونحوها فألبسها لباسا سلفياً نجدياً أثرياً؛ فانتشرت بذلك مسائل الولاء والبراء ومتعلقاتها بين شباب بلادنا انتشار النار بالهشيم؛ لقد جاء هذا الرجل إلى عقيدة الولاء والبراء النائمة بين الشباب في بلادنا فهزها هزاً عنيفاً فأيقظها .. )
هكذا يزعم هذا العدو .. وقد قيل ( والفضل ما شهدت به الأعداء )
ويحق له ولأوليائه أن يرتعبوا من هذا الكتاب؛ فقد انتشر في مرابعهم بين أهل الوبر والمدر هو و(الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية) انتشار النار بالهشيم، حتى رأيته في أوائل التسعينيات وقبل ظهور الإنترنت في البادية بين البدو وفي بيوت الشعر، أي والله ..
ولقد أشرت في مقدمته قبل سنين إلى أني قد عاينت فعلاً في سجني مدى غيظ الأعداء من هذا الكتاب، فقد كانوا كلما اعتقلوا أخاً يسألونه أول ما يسألونه عن هذا الكتاب؛ وهل قرأه ؟ وهل يعرف مؤلّفه ؟
وكان بعض المحققين يقول لمن يجيب على ذلك بالإيجاب: " يكفي هذا ليكون فكرك جهادياً وتقتني سلاحاً، ما اعتقلنا تنظيماً مسلحاً إلا ووجدنا عنده هذا الكتاب".
فهل عرفتم لماذا يخافونه !؟
فالحمد لله الذي جعله شوكة في حلوق الأعداء وغصة في صدورهم وقرحة في كبودهم وأسأل الله أن يظل لنا سعداً، وأن يبقى مرعاه للطاغوت وأذنابه سعداناً [2].
إن هذا الكتاب يدعو إلى قطع الوشائج مع الطاغوت واجتنابه وعداوته والبراءة من معاقله الوثنية وأوكاره الشركية كالبرلمانات ونحوها .. وهذه الدعوة كما فهمها الأعداء قبل الأدعياء؛ تؤدي في نهاية المطاف ولابد إلى المواجهة والجهاد، فهذا الكتاب ينسف كل الطرق التي يمليها الطاغوت على أوليائه ويقبلها أويستسهلها الدعاة المشوّهين لملة إبراهيم المنحرفين عن جادتها .. ويدعو إلى طريق واحدة فقط هي الطريق التي دعا إليها الأنبياء والتي جعلها خاتمهم تنتهي بالجهاد .. هذا هو خيار التغيير في هذه الطريق ( الاستئصال من الجذور للطاغوت وحزبه ) ولو بعد حين.. ولا تعترف هذه الطريق بالمشاركة والتحالف مع الطاغوت ولا بالترقيع له أو التجميل لباطله أو التزلف والمداهنة والمشاركة والتطبيل والتزمير .. بل تسعى لتعريته منذ أو الطريق لتحقق إسقاطه وهدمه ونسفه في آخرها ..
ولذلك فمن الطبيعي أن يكرهه الطاغوت وأنصاره وأولياؤه وأذنابه..
فهل عرفتم لماذا يغيظهم هذا الكتاب ! ولماذا يخافونه !؟
***
وإلى مغالطات الدكتور الحميدي حول الكتاب ..
-فمنها زعمه أني أدّعي أن من لا يجاهد فليس له حظ من الإسلام، واسترساله في الرد على ذلك وكأنه ثابت عني؛ وهذا يعرف كذبه هو قبل غيره، فالكتاب وإن كان يحبه المجاهدون ويقرأونه، وقرت عيني حين رأيته في الجبهات والمعسكرات في أفغانستان .. إلا أنه لم يركّز في مادته على الجهاد؛ بل ركّز على ما يرتكز عليه التوحيد والجهاد من أوثق عرى الإيمان وهي الولاء والبراء .. فجل مادة الكتاب تتكلم عن هذا ..
ولا يشك مسلم يعرف توحيده أن من ماتت عنده عقيدة الولاء والبراء حتى صار لا يفرق بين المسلمين والمشركين؛ أنه لا حظ له في الإسلام، وهذا ما كنت أثيره على مدى الكتاب وأركز عليه وأدندن حوله وأهزه هزاً؛ كما قال ذلك الصحفي ..
- وأما دعواه أن الغرض من تصنيف الكتاب ( هو التهييج وإثارة عاطفة وحماس الشباب السعودي على وجه الخصوص ) فغير دقيق؛ بل الهدف المنشود الذي بتنا نلمسه بفضل الله تعالى من سنين ( هو تهييج وإثارة وإحياء عقيدة الولاء والبراء في الشباب المسلم على وجه العموم ) فهذه العقيدة لا تعرف الجنسيات السعودية ولا غيرها، ولا تحدها الحدود بل هي تتعدى جميع الحدود وتهدم وتتبرأ من كل الجنسيات الجاهلية ..
- وأما قول الدكتور ( أن أدبيات الفكر المتطرف كتبها قليلو علم متبصر )
قلت: هذا الأمر إنما يحكم به من النظر في واقع الفريقين، فأهل العلم والبصر هم من يميزون الباطل فيجتنبونه ويسعون في إبطاله، ويميزون الحق فيتبعونه ويسعون في نصرته، وأما من لا يميز الحق من الباطل، ويعكس فيتبع الباطل ويتولى أهله ويحارب الحق ويبارز أهله؛ فهذا ليس من العلم والبصر ولا قلامة ظفر .. والناس اليوم ولله الحمد والمنة تميّز، ونحن والطواغيت وأذنابهم وأولياؤهم فريقان يختصمان؛ أما نحن فقد كفرنا بالطواغيت وتبرأنا من شركهم واجتنبناهم إلى أقصى العدوات والأطراف التي تباعدنا عنهم وعن كفرهم وباطلهم؛ ولذلك يسموننا متطرفين وينعتون فكرنا كما فعل الدكتور ها هنا بالفكر المتطرف .. أما الذين اصطفوا مع حزب الولاة وظاهروهم على أنصار الشريعة فيسمونهم بالمتوسطين أتدرون لماذا ؟ لأنهم توسطوا القعود والجلوس والتربّع في أحضان سادتهم وأولياء نعمتهم ..
- ينكر الدكتور في برنامجه على من يدعي أن ملة إبراهيم قد ضُيّعت معالمها وأن ميراث الأنبياء ( قد شُوّه وتسلط عليه الكبراء وتسلط عليه الظالمون وميعوه )، ويحسد كل من يسعى لإعادة الحق إلى نصابه ويتهمه بأن لديه أهدافاً مبطنةً سواء كما قال كان ( هذا الكتاب أو صاحبه أو من يقف وراءه ) !!
وينسى أو يتناسى ما شحنت به كتابي من أقوال الأئمة الذين كرّروا أمثال هذه العبارات وتحدثوا عن غربة التوحيد وملة إبراهيم؛ فهل كان لدى أولئك الأئمة برنامجاً مشبوهاً وأهدافاً مبطنةً أيضاً ؟ حتى أنشد ذلك ابن سحمان شعراً فقال:
وَمِلَّةُ إبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا عَفَاءً فَأَضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ
وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفَتْ عَلَيْهَا السَّوَافِي فِي جَمِيعِ الأَقَالِمِ
- وأما دعوى الحميدي في مبارزته لي وأنا مغيب عنه؛ أنني أظهرت هدفين في نهاية الكتاب؛ (الأول: الدعوة لإعداد تنظيمات تخرج على المجتمع كله وتكفّره، والثاني: الإنقضاض على المجتمع بترويج الفتن واستباحة الدماء والأموال والأعراض )اهـ.
فهذا من العار الذي لا يليق بصاحب منصب علمي ولقب أكاديمي، فليس من أهدافي في هذا الكتاب ولا في غيره (الدعوة لإعداد تنظيمات تخرج على المجتمع كله وتكفره ولا الإنقضاض على المجتمع بترويج الفتن واستباحة الدماء والأموال والأعراض ) ولعنة الله على الكاذب المفتري منا؛ ولو أنه قال أن من أهدافي (الدعوة لإعداد تنظيمات تخرج على الطواغيت كلهم وتكفرهم وتدعوا إلى جهادهم وخلعهم ) لأقررته على هذا ولصدّقته فيه، ولكنه جرى على عادة ولاة أمره في التستر بالمجتمعات والناس، فيرموننا بتكفير الناس ليسهّلوا بذلك دفع التكفير عن أنفسهم ..
- ومن هذا القبيل زعمه أني: ( أعتبر الكفر المقصود اليوم هو كفر المجتمعات الإسلامية التي نعيش فيها نحن، من حكومات وولاة أمر إلى الوالدين .. ليجعلها هي بمثابة أصنام قوم إبراهيم التي يجب أن تكسر وتهدم كما يزعم المقدسي )اهـ.
فأقول صدق الكذوب في بعض كلامه؛ وهو قوله أني أرى كفر الحكومات وولاة الأمر وأزيده من الشعر بيتاً؛ أني أكفر أيضا أنصارهم ومن يشاركهم بالحكم والقضاء بغير ما أنزل الله وتشريع ما لم يأذن به الله .. ولا حرج عندي من أن ينسب إلي أني أعتبر هؤلاء: ( بمثابة أصنام قوم إبراهيم التي يجب أن تكسر وتهدم ).
أما الزيادة التي زادها الدكتور ولم يستحيي من افترائها وكذبها وهي دعواه أني أقول بـ (كفر المجتمعات الإسلامية التي نعيش فيها نحن .. إلى الوالدين ) فهو مما يعرف كل أحد براءتنا منه، وقد أعلنا هذه البراءة من هذا الغلو، وتحمّلنا لأجلها ما نالنا من أهله من كذب وافتراء وتشويه وشنآن .. ومن ثم فلا سبيل لنفوق مثل هذا الكذب إلا على الصم البكم الذين لا يعقلون !!
- ومثل ذلك كذبه الصريح في قوله: ( فالمقدسي أكثر من النقل من كلام الإمام محمد بن عبدالوهاب في الخطر الشركي وضلاله والبراءة من الشرك وأهله، وهو كلام طيب متفق عليه ولا يجادل فيه أحد، لكنه بعد ذلك وظّفه لهدفه الخطير، فأنزله على المجتمعات المسلمة حكومات وقضاة وعلماء ومحاكم وأفرادا وشعبا، كل من يعيش في هذه الدولة وهذا البلد أو يتوظف في هذه الوظيفة فهو من هذه الأصنام والطواغيت التي يجب عنده أن تعامل كما عامل إبراهيم أصنام قومه بالتحطيم والتكسير والإبادة والقتل ) اهـ.
فنقول فيه ما قلناه من قبل: أما الحكومات والقضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ومحاكمهم فنعم قد قصدناهم في هذا، ولا زلنا نقصدهم، وهذا ديننا الذي ندين الله به ولا نستحيي منه ولم نتراجع عنه؛ ولا حرج عليه أن ينسب إلينا قوله ( ويجب أن تعامل كما عامل إبراهيم أصنام قومه بالتحطيم والتكسير والإبادة والقتل ) عند القدرة على ذلك، وأما الكذب الذي زاده الدكتور!! وافتراه وكذبه وزاده حين قال ( فأنزله على المجتمعات المسلمة ... علماء .. وأفرادا وشعبا ) فكل أحد يعلم أننا نبرأ إلى الله منه في كتابنا هذا وفي غيره .. وهو مما سيفضح هذا الدكتور ويظهر أنه موظف من قبل الطواغيت لتشويه المنهج والشهادة عليه بالزور ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ )
-ومثل ذلك كذبه الصريح أيضاً: (أما كتاب المقدسي فعمد إلى آية واحدة في سورة الممتحنة وهي "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله (أي الأصنام والأوثان) كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ....."، وأقام عليها وجوب أن يعلن الكفر في كل حال وكل وقت وبكل طريقة البراءة منهم وما هو هذا الكفر؟ ليس كفر من يعبد الأصنام والأوثان وإنما هذا المجتمع المسلم الذي أنت تعيش فيه هو هذه الأصنام ) اهـ .
فهذا الرجل لا يستحيي من تكرار واجترار الكذب وافترائه؛ ونحن نمهله إلى أن يفرّق بيننا الموت؛ أن يستخرج من كتاباتي كلها وليس من كتاب الملة وحده مثل هذه العبارة التي افتراها علينا أو ما يدل عليها دلالة قطعية من: أننا ندعو إلى إعلان الكفر بـ (هذا المجتمع المسلم الذي نعيش فيه وأنه هو هذه الأصنام)!! ونحن نتهمه صراحة بالكذب في هذا فليدفع عن نفسه بإظهار البينة والبرهان على ما قال؛ فإن لم يفعل فهو من المفترين الكاذبين لأن الله سبحانه يقول: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) والكاذب لا تقبل شهادته ولا روايته وليس كفؤا أن يتلقى العلم منه ..
- أما ادعاءه أن (دين الله ليس فيه سرية )، فدعوى فارغة تنقضها سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولست محتاجاً لأن أسوق أدلة منها على ذلك فهي معروفة للصغير والكبير، واحتجاجه بقول عمر بن عبدالعزيز: (فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا ) من سخافة طريقته في الاستدلال، وهي مؤشر على ضحالة مستواه العلمي، فلا زال أفراخ المرجئة وصبيانهم يسمعونا مثل هذا الاستدلال السخيف ! ونحن لم ندع قط لأن يكون العلم سريّا، كيف وقد فصلنا في الكتاب نفسه بين (علنية الدعوة والتبليغ في مقابل سرية التنظيم والتخطيط ) وهذا مثبت في كتاب الملة، فمن الذي يبتر الكلام ويأخذ منه ما يناسب هواه، ويؤخر ويكتم ما ينقض باطله، هذه التهمة التي اتهمنا بها الدكتور من باب المثل القائل (رمتني بدائها وانسلت) .
- أما كلام الحميدي: عن المنافقين الذين يجادلون بالقرآن، ليحققوا أغراضاً في نفسهم، فلا يتورعوا عن استخدام الآيات والأحاديث، وأن يأخذوا من كلام العلماء بعضه ليسخروه ويطوّعه لخدمة أغراضهم، ويستخدموا مسمى الدليل والنص من كتاب الله وأقوال بعض الصحابة ليوظفوها لأهدافهم الخبيثة؛ وهو ما يطلق عليه "الميكافيلية" أو "الغاية التي تبرر الوسيلة"
فهذا هو داء علماء السلاطين وتلك هي طريقتهم وطريقة أولياء أمورهم، الذين يطوعون لهم الأدلة ويجعلونها مطية يسخرونها لتسويغ كفرهم وإلحادهم بلي أعناقها وحملها على غير مناطاتها .. ولا يستحيي هذا الدكتور من أن يرمي غيره بدائه وداء أسياده، فبرنامجه هذا الذي ارتضى أن يشارك فيه؛ ما هو إلا تطبيق عملي للنفاق بأبشع صوره، واستخدام للآيات والأحاديث لإدخال الناس في دين الطواغيت وصدهم وتنفيرهم عن الحق وأهله ..
أما كلامه عن الميكافيلية وكون الغاية عند أربابها تبرر الوسيلة ؛ فكل أحد يعرف أن هذا من أهم خصائص ولاة أمره التي وضعها لهم نيقولا ميكافيلي، فأتقنوا تطبيقها وزادوها خبثاً وفساداً، وكل من له سمع وبصر يعرف واقعهم ويشهد بهذا، أما نحن فنبرأ إلى الله من هذه المبادئ النتنة، وقد كتبنا في التحذير منها منذ زمان .. وانظر إن شئت كتابنا ( القول النفيس في التحذير من خديعة إبليس ) يعرّفك من هم الأصحاب الحقيقيون لهذه المبادئ العفنة ..
-ولا يستحيي هذا الدكتور من أن يدّعي أنني أفسر ( الموالاة في ملة إبراهيم بأنها العدائية التامة لكل شيء ) هكذا قال؛ والله يقول: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) .
والحميدي يعلم وكل من طالع كتابي أيضاً يعلم؛ أن الدكتور كاذب في هذه الدعوى شاهد بالزور فيها؛ فلمْ نَقُل قط أن الموالاة في ملة إبراهيم تعني العدائية التامة لكل شيء كلا وحاشا؛ ونتحدّاه أن يأتي من كلامنا بنص من هذا القبيل؛ بل الذي قلناه يادكتور وتعلمه جيدا أنت وأسيادك، ولا زلنا نقوله ولا نتحرج منه أو نستحيي منك أو من غيرك أن نظهره هو: أن البراءة في ملة إبراهيم تقتضي معاداة الشرك وأهله، والطواغيت وأنصارهم، وليس معاداة كل شيء؛ فهذا سخف لا يخرج من رأس عاقل .. ولكن الكاذب الذي همه إرضاء ولاة أموره لا يتحرج ولا يتورع من إلقاء الكلام على عواهنه، فيمسي لا يميز ما يخرج من رأسه! وهذا بعض كلامنا في كتابنا الذي يخشونه لأنه يحرض على طواغيتهم؛ بين صريح واضح، فتأمل من هم المعنيون فيه:
( واعلم أن من أخص خصائص ملة إبراهيم ومن أهم مهماتها التي نرى غالبية دعاة زماننا مقصرين فيها تقصيراً عظيماً بل أكثرهم هجرها وأماتها: -
- إظهار البراءة من المشركين ومعبوداتهم الباطلة.
- وإعلان الكفر بهم وبآلهتهم ومناهجهم وقوانينهم وشرائعهم الشركية.
- وإبداء العداوة والبغضاء لهم ولأوضاعهم ولأحوالهم الكفرية حتى يرجعوا إلى الله، ويتركوا ذلك كله ويبرأوا منه ويكفروا به.
قال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 4].
* ويقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: (فقوله: {وبدا} أي ظهر وبان، وتأمل تقديم العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية، فإن الإنسان قد يبغض المشركين ولا يعاديهم فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء، ولا بد أيضاً من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ظاهرتين بيّنتين. واعلم أنه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب، فإنها لا تنفعه حتى تظهر آثارها وتتبين علاماتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين) أهـ. "من سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك". )اهـ.
فتأمل لكلامنا هذا المحدد المنضبط ! أين فيه العداوة التامة لكل شيء!! هل أدخلنا في هذه العداوة؛ المسلمين أو عصاتهم .. كيف وقد قلنا قبل ذلك في الكتاب نفسه: ( وفي مقابل هذه البراءة من الشرك وأهله.. هناك أيضاً: (موالاة دين الله وأوليائه ونصرتهم ومؤازرتهم والنصح لهم وإبداء ذلك وإظهاره) حتى تتآلف القلوب وتتراص الصفوف، ومهما عنّفنا إخواننا الموحدين المنحرفين عن جادة الصواب ومهما شدّدنا في النصح لهم ونقد طرائقهم المخالفة لطريق الأنبياء.. فالمسلم للمسلم كما يقول شيخ الإسلام كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وربما احتاج إزالة الوسخ أحياناً إلى شيء من الشدة التي تُحمد عاقبتها، لأن المقصود من ورائها الإبقاء على سلامة اليدين ونظافتهما.. ولا نستجيز بحال من الأحوال التبرؤ منهم بالكلية، لأن للمسلم على أخيه حق الموالاة التي لا تنقطع إلا بالردة والخروج من دائرة الإسلام.. وقد عظّم الله سبحانه من شأن هذا الحق فقال: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73]. والمسلم المنحرف إنما يُتبرأ من باطله أو بدعته وانحرافه مع بقاء أصل الموالاة.. ألم تر أن أحكام قتال البغاة وأمثالهم.. تختلف مثلاً عن أحكام قتال المرتدين... ولا نقر أعين الطغاة ونفرحهم بعكس ذلك أبداً، كما يفعل كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن اختل لديهم ميزان الولاء والبراء في هذا الزمان، فبالغوا في البراءة والشماتة من مخالفيهم الموحدين والتحذير منهم بل ومن كثير من الحق الذي عندهم وربما على صفحات الجرائد النتنة المعادية للإسلام والمسلمين ناهيك عن إغراء السفهاء والحكام بهم وبدعواتهم.. حتى ليُشارك كثير من هؤلاء الدعاة أولئك الحكام بالقضاء عليهم وعلى دعواتهم بإلصاق التهم الباطلة بهم أو ترقيع الفتاوى للطواغيت لقمعهم، كأن يقولوا عنهم: بغاة أو خوارج أو أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، إلى غير ذلك.. الخ ) اهـ.
فهذا الكلام لم يستوعبه إنصاف الدكتور! ولم يتحمل كذبه وتزوير برنامجه إظهاره، بل كتمه على طريقة القطع والبتر التي رمى بها خصومه ليحقق مآرب له كما قال؛ وجعل العداوة التي ندعوا إلى إظهارها للطواغيت وأنصارهم وللمشركين ومعبداتهم؛ يدخل تحتها كل شيء!!
-وأما دعوى الحميدي أني أعني بموالاة الكفار التي نهى الله عنها: ( المعاداة الصريحة والبراءة والمجاهرة بالعدوان في كل حالة، وفي أي وقت مع أي كافر، دون مراعاة أقسام الكفار، دون مراعاة معاهدات، دون مراعاة مصالح، دون مراعاة أي شيء، قدرة أو عدم قدرة، ضعف أو عدم ضعف، مخالفا ما ذكره كل علماء الإسلام .... وما فعله النبي - صلى الله عليه و سلم - مع أصناف الكفار سواء كانوا محاربين أو مستأمنين أو معاهدين أو غير ذلك. ) اهـ .
فدعوى كاذبه أيضا فالرجل لا يمل من الكذب ولا يستحيي منه .. ولن أكلف نفسي إلا النقل من كتاب الملة لبيان كذبه الذي لا يخجل منه حيث قلت: (- وهاهنا شبهة يطرحها كثير من المتسرعين، وهي قولهم إن ملة إبراهيم هذه إنما هي مرحلة أخيرة من مراحل الدعوة، يسبقها البلاغ بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يلجأ الداعية إلى ملة إبراهيم هذه من البراءة من أعداء الله ومعبوداتهم والكفر بها وإظهار العداوة والبغضاء لهم إلا بعد استنفاذ جميع أساليب اللين والحكمة.. فنقول وبالله التوفيق: إن هذا الإشكال إنما حصل بسبب عدم وضوح ملة إبراهيم لدى هؤلاء الناس، وبسبب الخلط بين طريقة الدعوة للكفار ابتداء وطريقتها مع المعاندين منهم.. وأيضاً الفرق بين ذلك كله وبين موقف المسلم من معبودات ومناهج وشرائع الكفار الباطلة نفسها.. فملة إبراهيم من حيث أنها إخلاص للعبادة لله وحده وكفر بكل معبود سواه لا يصح أن تؤخر أو تؤجل.. بل ينبغي أن لا يبدأ إلا بها، لأن ذلك هو تماماً ما تحويه كلمة لا إله إلا الله من النفي والإثبات وهو أصل الدين وقطب الرحى في دعوة الأنبياء والمرسلين، ولأجل أن يزول عنك، كل إشكال فهاهنا قضيتان:
* الأولى: وهي البراءة من الطواغيت والآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل والكفر بها، فهذه لا تؤخر ولا تؤجل.. بل ينبغي أن تظهر وتعلن منذ أول الطريق.
* الثانية: البراءة من الأقوام المشركين هم أنفسهم إن أصروا على باطلهم. وإليك التفصيل والبيان) ثم شرعنا بالتفصيل .. الذي جاء فيه: (بالطبع لا نقول إن إظهار مثل هذه البراءة والعداوة شاملة حتى للمؤلفة قلوبهم، أو من يظهرون التقبل ولا يظهرون العداوة لدين الله ، وإن كان الواجب وجودها في القلب لكل مشرك، حتى يتطهر من شركه، ولكن الكلام على الإظهار والإعلان والمجاهرة والإبداء، فهؤلاء وحتى المتجبرين والظالمين يُدعون إلى طاعة الله بالحكمة والموعظة الحسنة ابتداء فإن استجابوا فهم إخواننا نحبهم بقدر طاعتهم ولهم ما لنا، وعليهم ما علينا. وإن أبوا مع وضوح الحجة واستكبروا وأصروا على ما هم عليه من الباطل والشرك ووقفوا في الصف المعادي لدين الله، فلا مجاملة معهم ولا مداهنة.. بل يجب إظهار وإبداء البراءة منهم عند ذلك .. وينبغي التفريق هنا بين الحرص على هداية المشركين والكفار وكسب أنصار للدين واللين في البلاغ والحكمة والموعظة الحسنة وبين قضية الحب والبغض والموالاة والمعاداة في دين الله، لأن كثيراً من الناس يخلط في ذلك فتستشكل عليهم كثير من النصوص مثل: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" وما إلى ذلك. وقد تبرأ إبراهيم من أقرب الناس إليه، لما تبين له أنه مصرّ على شركه وكفره، قال تعالى عنه: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة: 114].. ذلك بعد أن دعاه بالحكمة والموعظة الحسنة، فتجده يخاطبه بقوله: {يا أبت إني قد جاءني من العلم} [مريم: 43].. {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن} [مريم: 45].. وهكذا موسى مع فرعون.. بعد أن أرسله الله إليه وقال: {فقولا له قولاً ليّنا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44].. فقد بدأ معه بالقول اللين استجابة لأمر الله فقال: {هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربك فتخشى} وأراه الآيات والبينات .. فلما أظهر فرعون التكذيب والعناد والإصرار على الباطل، قال له موسى كما أخبر تعالى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني أظنك يا فرعون مثبورا} [الإسراء: 102]. بل ويدعو عليهم قائلاً: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فالذين يدندنون على نصوص الرفق واللين والتيسير على إطلاقها ويحملونها على غير محملها، ويضعونها في غير موضعها، ينبغي لهم أن يقفوا عند هذه القضية طويلاً، ويتدبروها ويفهموها فهماً جيداً.. إن كانوا مخلصين.. ) اهـ .
وقد كررت ذلك في الكتاب نفسه في سياق آخر بعد ذلك فقلت: (الأول: البراءة من آلهتهم الباطلة والكفر بطواغيتهم التي تعبد من دون الله عز وجل.
الثاني: عداوة المشركين المعاندين المصرّين على باطلهم.. وقدمنا أيضاً أن الأول مطلوب من المسلم منذ أول خطوة في الطريق دون توان أو تأخير ....
أما الثاني، فلا يبدى أو يعلن، إلا بعد الإصرار على الباطل وعداوة الحق وأهله. فأبو طالب مثلاً.. على الرغم من بقائه على الكفر لم يكن مظهراً العداوة والبغضاء للحق وأهله ، بل على العكس من ذلك فقد كان ردءاً مدافعاً عن صاحب الحق ورسوله صلى الله عليه وسلم... والشاهد من ذلك أن مثل هذا النصير أو المجير.. يبقى الأمل وارداً في هدايته واتباعه للحق إلى آخر لحظة ما دام لا يقف مع الصف المعادي المحارب له بل يقف مدافعاً عن بعض أتباعه... فكيف إذا أضيف إلى ذلك كونه من خاصة الداعية وقرابته الذين يتعلقون به... ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ييأس من دعوة عمه ....
وقبل ذلك كله، هناك أمر آخر... وهي النقطة الأولى والمهمة في الموضوع.. أن النبي صلى الله عليه وسلم مع موقف عمه المدافع هذا، لم يكن ليداهنه على حساب دعوته ودينه، بل كان عمه يعرف بدعوته صلى الله عليه وسلم ويسمع بعداوته وبعيبه لآلهتهم الباطلة....... وهو صلى الله عليه وسلم كذلك أولاً وآخراً لم يكن ليربطه بعمه الكافر ود ولا حب كيف وهو صلى الله عليه وسلم قدوتنا ومثلنا الأعلى في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم...} الآية، مع حرصه على هدايته... فذلك شيء والحب والود شيء آخر... إلى قولي: ( ومن ذلك أيضاً صلة الوالدين المشركين ومصاحبتهما بالمعروف وتألّف قلبيهما، لأن أمل التأثر بابنهما واتباع الحق الذي يدعو إليه وارد باقٍ ما داما متعلقين بالولد.. حتى وإن جاهداه على أن يشرك بالله... ما لم يقفا في الصف المحارب المعادي الصاد عن سبيل الله... فإن فعلا ذلك تبرأ منهما علانية كما فعل إبراهيم مع أبيه لما تبين له أنه عدو لله.. بل ويعاديهما ويقاتلهما كما فعل أبو عبيدة وغيره من الصحابة في بدر.. فإبراهيم عليه السلام كما قدمنا كان يتألف قلب أبيه ويدعوه بالحسنى واللين ويظهر حرصه على هدايته وخوفه عليه من عذاب الله لأولياء الشيطان.. ولكنه تبرأ منه واعتزله عندما تبين له عداوته الصريحة لله... ومنه قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} ثم استثنى سبحانه: {إلا الذين ظلموا منهم...} [العنكبوت: 64]. ) اهـ من ملة إبراهيم.
فأين هذا كله من قول الدكتور الذي لا يستحيي من الكذب في قوله: ( المعاداة الصريحة والبراءة والمجاهرة بالعدوان في كل حالة، وفي أي وقت مع أي كافر، دون مراعاة أقسام الكفار!! )
لماذا كتم ذلك كله من كتابي وأخفاه وراء ظهره !؟
أوَيَظن أنه بذلك سيضحك على الناس؛ وسيروّج ما افتراه وكذبه عليهم!؟ أوَيظن أن لَيس للناس عقول وأعين تقرأ وتنظر وتراجع خلفه !؟
ولكنه داء الاستغفال للشعوب والاستغباء للناس؛ يبدو أنه انتقلت عدواه إلى الدكتور من ولاة أمره !!
-وفي نقلي أعلاه من كتابي رد على كذبة أخرى للحميدي وهي إيهامه أني اختزلت قصة إبراهيم مع أبيه وكأني أهملت ولم أذكر جانب صبره على دعوة أبيه وتلطفه إليه، فقد ظهر لك من كلامي أعلاه أن الأمر بخلاف دعوى الحميدي؛ كيف وقد ذكرت اللين في الخطاب الدعوي وأشرت إليه حتى في ابتداء دعوة الطواغيت كفرعون وقصة موسى معه ..
-ومنه تعرف أيضا كذب الحميدي في قوله: (لكن المقدسي ألغى هذا كله) ويعني به الصبر على المدعو وممارسة الوسائل المختلفة في بيان الحق الخ .. فقد رأيت كلامي الذي أخفاه .
تأمل هذا، لتعرف من أحق الناس بوصف الحميدي: ( عدم مراعاة الأمانة العلمية في الاستدلالات الشرعية والنقولات من كتب أئمة الدعوة والعلماء، وممارسة الاختزال والاجتزاء وذكر بعض كلمات من الجملة وعدم إكمالها لتطويع الكلمات لخدمة أغراضه ... ) وقوله: (اتصف بالمزاجية في الاستدلال والاجتزاء في النقل، ... بل تجده يختار بعض الكلمات المقتطفة الانتقائية ليمارس عليها الاختزال ويطوعها عنوة لتحقيق أهدافه ) اهـ
فسبحان الذي جعله يصف فعلته ويدين نفسه ..
وأخيرا يقول تعالى عن خليله إبراهيم: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ويقول: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ )
فلا أشك طرفة عين أن سعي القوم في تشويه كتابي هذا سينقلب عليهم، وسيزيده انتشارا وحسنا في أعين الناس؛ عكس ما يرغبون ويمكرون ..
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)
ومعلوم أن كل ما يُرمى به الحق من كذب وافتراء وتشويه ومكروه ؛ يقلبه الله بمنّه وكرمه إلى محمود وممدوح .. وأن كل ما يصيب المؤمن من أذى ولأواء ومكروهات في سبيل الله يقلبه الله بمنه وكرمه إلى محبوبات .. ويكفينا عبرة حسيّة تلقي بظلالها المعنوية على ما نشير إليه .. انقلاب دم الشهيد إلى أزكى أنواع المسك يوم القيامة ..
وفي يوم أحد كان أبو عبيدة أحد العشرة الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ليذودوا عنه بصدورهم رماح المشركين؛ فلما انتهت المعركة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كسرت رباعيته وشج جبينه وغارت في وجنته حلقتان من حلق درعه، فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما من وجنته فقال له أبو عبيدة: أقسم عليك أن تترك ذلك لي، فتركه، فخشي أبو عبيدة إن اقتلعهما بيده أن يؤلم رسول الله، فعض على أولاهما بثنيته عضاً قوياً محكما فاستخرجها ووقعت ثنيته، ثم عض على الأخرى بثنيته الثانية فاقتلعها فسقطت ثنيته الثانية .. فصار أبو عبيدة أهتما .. والأهتم هو من انكسرت ثنيتاه . قال أبو بكر: ( فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هَتَماً ) "
اللهم فإني قد دفعت بكتابي هذا عن ملة خليليك عليهما الصلاة والسلام؛ فزد كتابي بتشويه الشانئين حسنا في أعين الناس، وزده انتشارا يغيظ أعداءك، واجعله ذخرا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ويطيب لي أن أختم مقالي هذا بما افتتحت به كتابي هذا من قبل ..
فأقول؛ ولا أزال أردد وأقول بصوت عال مسموع، وبرأس شامخ مرفوع:
( إلى الطواغيت في كل زمان ومكان...
إلى الطواغيت حكاماً وأمراء وقياصرة وأكاسرة وفراعنة وملوكاً...
إلى سدنتهم وعلمائهم المضلين...
إلى أوليائهم وجيوشهم وشرطتهم وأجهزة مخابراتهم وحرسهم...
إلى هؤلاء جميعاً.. نقول: إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله
براء من قوانينكم ومناهجكم ودساتيركم ومبادئكم النتنة..
براء من حكوماتكم ومحاكمكم وشعاراتكم وأعلامكم العفنة..
كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده
لأجاهدن عداك ما أبقيتنــي ولأجعلن قتالهم ديـــدانِ
ولأفضحنهم على رؤوس الملا ولأفرين أيديمهم بلســـانِ
موتوا بغيظكم فربي عالــم بسرائر منكم وخبث جنـانِ
فالله ناصر دينه وكتابـــه ورسوله بالعلم والسلطــانِ
والحق ركن لا يقوم لهــدّه أحد ولو جمعت له الثقـلانِ
هذه بعض ثمرات (ملة إبراهيم) ..
والباقي يخبركم عنها أسود الشرى وأبطال الوغى في ساحات الجهاد وجبهات القتال فيما بين مشرقها ومغربها ..
فهل عرفتم
لماذا يخافونها !؟